قراءة فى المجموعة القصصية ( غروب ) للأديب / مجدى شلبى
بقلم الكاتب والناقد محسن
الطوخى
تتميز المجموعة القصصية
( غروب ) للأديب مجدى شلبى بالتنوع والثراء فى الشخصيات, والاهتمامات, ويمكننى أن
أصفها بالسهل الممتنع. حيث تتألق قصص المجموعة فى اهاب من البساطة والعفوية. وبين
طيات تلك البساطة يمنحنا الكاتب رؤيته للحياة من منظوره الخاص, فيقول لك أن ليس كل
ماتراه الا عنوانا لدوافع أعمق تحتويها النفس الانسانية . وأن العين الواعية المدربة
يمكنها أن تلتقط أكثر مما يحتويه ظاهر الأشياء والسلوكيات.
يتجلى ثراء المجموعة
فى تعدد النماذج البشرية من مختلف الشرائح الاجتماعية التى ترصدها عين الكاتب. مدرس
الفصل المتحذلق, التاجرالجشع. الموظف المسافر طلبا للرزق. الغريب الأفريقى مجهول
الهوية, الأب المتلهف على وصول مولوده الأول, الموظفة العابثة, الهانم التى تعد
لحفل عيد ميلاد كلبها, الأبكم الأصم وتطلعه للزواج, المواطن العيى الذى يركب قطار
أسوان بدلا من الأسكندرية, أمام الجامع الببغاء الذى يردد عبارات لا يفقهها, السيدة
البسيطة زوجة البهلوان التى تشكو بطالة الزوج, العجوز الذى يلفظ أنفاسه كمدا فى طابور
صرف المعاش الشهرى, العريس الذى يفر بعروسه تاركا الأهل يتشاجرون فى صالة العرس,
ثم مدام إخلاص التى ليس لها من اسمها شىء والتى تقتل زوجها طمعا فى الحصول على ثروته. وتعدد الأماكن التى تدور فيها أحداث القصص لا يقل تنوعا عن شخصياتها. يعد مجدى شلبى
نموذجا للكاتب الذى يجوس متفحصا راصدا, لينقل لقارئه صورة شديدة الواقعية والتكثيف
للواقع الذى نحياه.
يعرف الكاتب هدفه قبل
الشروع فى الكتابة, لم يقع فى شرك الموجة الحديثة التى تقدم تهويمات مغرقة فى الذاتية, أو تجريدا مجحفا للنص يجرده من عناصره ويبتر الصلات مابين الكاتب والمتلقى. وهو
فى كل أقصوصة يقدم منذ الكلمة الأولى خطته للوصول الى نقطة تتجمع فيها خيوط الأحداث, وصول للحظة تنوير. أو لحظة انفراجة . تحقق فى آن, المتعة المبتغاة من مطالعة العمل
الأدبى, وتصل بالتجربة الى غايتها كما يهدف الأديب الواعى . نلاحظ ذلك فى (سكة سفر),
ينتبه القارىء على صوت تهشم الفنجان, فيدرك أن أزمة ما فى الأفق, كلمات الزوجة البسيطة
التلغرافية تمنحنا خلفية الأحداث, يلفظ الزوج أنفاسه الأخيرة معلنا أنه شاهد فى قعر
الفنجان "سكة سفر" المأساة مضفورة بالملهاة. والمخزون التراثى الشعبى
مثلما يعاون فى تخطى المحن. هو أيضا يقتل . تجربة كاملة وحية فيما لا يتعدى أربعين
كلمة. الحوار البسيط كان كافيا للتعريف بسمات الشخصيتين. وفى (غيبة عم جوليد)
. يحيا الغريب الأفريقى فى الحى الشعبى مجهول الهوية. ولا يجد الناس غضاضة فى احتوائه
والتعايش معه. تبهرك اللقطة العفوية التى تعكس أصالة الحارة المصرية التى تتعامل مع
الغرباء بالنظر الى أخلاقهم وسلميتهم فقط دون اعتبار لفوارق الجنس أو الدين أو العرق, وتأتى لحظة النهاية عندما يؤدى موته إلى التعرف على هويته, فتضىء لحظة التنوير عند
بزوغ المفارقة بين حياة مجهلة وموت معرف, فى قصة ( أعلى الإيرادات ). تتوهج عبارة
"كلاكيت عاشر مرة" فى ذهن القارىء, الممثل محمود حمدى الذى أرهق نفسه
فى أداء دورالكهل الذى يصاب بنوبة قلبية ليلة زفافه بالزوجة الشابة, يصاب بنوبة حقيقية. "كلاكيت عاشر مرة". يضفر الكاتب ويمزج بين التوطؤ الفعلى للمخرج,
وبين التواطؤ التمثيلى للزوجة فى بحثها الزائف عن الدواء. والنتيجة هلاك محمود حمدى
على المستويين, فى الفيلم وفى الواقع. ويحقق المنتج أعلى الإيرادات. يقول تشيكوف
فى معرض وصفه للقصة القصيرة "إذا وصف الكاتب بندقية معلقة على الحائط فى بداية
القصة, فيجب أن تنطلق البندقية قبل النهاية". وعبارة الكلاكيت هنا هى بمثابة
بندقية تشيكوف. ولما كان من الصعب استعراض قصص المجموعة كلها فسنعرض لمثال أخير يوضح
أحد تكنيكات مجدى شلبى فى القص , وهو قصة ( العروس العائمة ), اذ يغرق الأب خلال رحلة
عودته من سفره بعد عامين من الاغتراب, ولم ينج إلا العروس الدمية التى كان بنيته اهدائها
الى طفلته. كبرت سلوى وتزوجت وأنجبت ولا تزال تنتظر الأب الغائب. بينما العروس الدمية
لازالت طافية على الأمواج تنتظر من ينتشلها. الدمية التى تمثل المعادل الموضوعى لاهتزاز
سلوى النفسى رغم أن الحياة سارت سيرها المعهود. يؤكد أن غياب الأب هو المعادل للأمان
النفسى المفقود رغم استقرار حياة سلوى ظاهريا . والمهارة هنا فى نقل التجربة مصحوبة
بالشحنة الانفعالية دون اللجؤ الى أى مؤثرات ميلودرامية. تتسلل القصة الى الشعور ببساطة
وتلقائية. بل أيضا ومحملة بكثير من المتعة المترتبة على نعومة القص.
نلاحظ من حيث التكنيك
ثلاث محاور رئيسية استخدمها الكاتب لبناء معمار القصة خلال المجموعة. وهى: المفارقة. الكاريكاتور الاجتماعى. اللوحة الانسانية.
( 1 ) المفارقة: وهى فى أبسط تعريفاتها تعنى خاتمة غير مقبولة, مستمدة من فرضيات قد تبدو مقبولة. وللمفارقة فيما نحن بصدده وظيفتين. تتعلق أولاهما
بالمتلقى, إذ تؤدى إلى خلق التوتر الدلالى عبر التضاد بين الأشياء والمعانى. بينما
تتعلق ثانيتهما بالنوع الأدبى الذى نتناوله, وهو القصة القصيرة. فالكاتب الواعى بخصائص
بناء القصة يستعين بالمفارقة لإحداث شحنة التوتر, ويبلغ عن طريقها ذروة العمل القصصى
باعتبارها نقطة تلاقى عناصر العمل ( لحظة التنوير ).
المفارقة اللفظية كأنموذج نجدها فى قصة ( الرقص على الحبال ). تشكو
السيدة البسيطة من بطالة زوجها راقص الباليه الذى فقد وظيفته ,ثم مكث فى بيته بعد أن
أمضى فترة كلاعب سيرك. ثم تتهلل فرحا أثر بشارة محدثها بأننا فى العصر الذهبى للاعبين
على الحبال, غير مدركة للتهكم المبطن فى المفارقة بين ظاهر اللفظ وباطنه .
أما المفارقة فى الموقف فنرصدها فى قصة ( استدعاء الأحباء ). انطلقت
الزغاريد. وعمت البهجة بقدوم العريس وأهله , انشغل أفراد الأسرتين فى تذكر الأموات
من الأسرتين. انهمكوا فى قراءة الفاتحة على أرواح الموتى, فاتشحت العروس بالسواد
وقدمت القهوة السادة بدلا من الشربات. وعلى عكس المفارقة اللفظية تعتمد مفارقة الموقف
على فطنة المتلقى لاستنباط أبعادها الفلسفية . فيفطن الى أن الصورة تعبر عن الميل الفطرى
للمصريين فى الاستغراق فى الحزن فى مقام الفرح.
تعتمد طائفة من قصص المجموعة على المفارقة بنوعيها فى خلق لحظة التنوير
وهى قصص ( ضعف الثمن/ غيبة عم جوليد/ أعلى الإيرادات/ عودة/ تأشيرة دخول/ ضمير
الحاج بيومى/ حكاية ابو وائل/ حكاية مدام إخلاص/ أعمار).
فنجد فى قصة (غيبة عم جوليد).. أن المجتمع
المصرى, وخاصة فى بيئاته الشعبية لديه قدرة مدهشة على استيعاب الغرباء. تسمو تلك
القدرة على اعتبارات اللون والجنس والدين. ولعل معظمنا يجد فى حياته
قصة شبيهة بقصة ذلك الأفريقى المختبىء من خصم ما بين أولئك الناس الطيبين قضى حياته بينهم
غريبا. يظهر ويختفى دون أن يثير ريبة أحد إلا فى المرة الأخيرة, يتوقع القارىء أن الغياب تلك المرة
رافقته ملابسات تستدعى القلق وهذا أمر وارد والسياق اكتفى بالتلميح. يظهر للمتوفى قريبا
يكشف هويته
الحقيقية. لتومض المفارقة محققة لمتعة القارىء. الملاحظ
المتتبع لقصص
مجدى شلبى يكتشف أنه يعتمد المفارقة كأساس لبناء غالب أعماله
القصصية. وهو
بذلك فى ظنى يستعيض بها عن التوتر اللازم للقصة القصيرة.
ويبلغ بها ذروة
العمل القصصى باعتبارها نقطة تلاقى عناصر العمل. (لحظة التنوير).
( 2 ) الكاريكاتير الاجتماعى. كما استعانت القصة القصيرة من غيرها
من الفنون كالفلاش باك والتقطيع من السينما. كذلك استعار الكاتب الذكى من فن الكاريكاتير
قدرته على النقد الاجتماعى الساخر من خلال المبالغة فى تحريف الملامح الطبيعية للسلوك. نرى ذلك فى قصة (بينى وبينك). يستدرج الأبكم والد الفتاة الذى رفض خطبته لبنته فى
حديث على الشات. ويستخلص منه مايشير الى تشوه المفاهيم وازدواجيتها لدى البعض. أذ
فى الوقت الذى يؤيد الأب حق الأبكم فى الزواج بشكل عام. إلا أنه على المستوى الشخصى
يأبى أن يطبق قناعاته عندما يتعلق الأمر بابنته. استطاع العرض الكاريكاتيرى الساخر
أن يجسد عمق الازدواجية دون الخوض فى سرد مفصل اعتمادا على تأثير الصورة الأعمق أثرا. كما نرى نموزجا ثريا فى قصة (فضل الصمت) . يقول معلم الروضة لأطفال فصله "المرء
مخبؤ تحت لسانه". فينشغل التلاميذ الصغار فى تخيل أحدهم وهو قابع تحت اللسان
فى صورة هزلية, تثير الأسى بقدر ماتثير الضحك والسخرية. يسخر المعلم من سذاجة الأطفال. وهو الأولى بالسخرية, يغادرهم وهو مستمر فى اللغو الفارغ. كلامى من ذهب , وسؤالكم
من صفيح. غير مدرك أن لكل مقام مقال. وأن عديم الفهم والادراك ليس إلا سواه لأنه
لم يخاطب الأولاد بالأسلوب الذى يناسب أفهامهم. يتبدى نفس الأسلوب فى قصص ( اللمبة
الحمراء/ المأذق/ تدافع/ الفهلويون يمتنعون/ واقعة زواج/ بين السماء والأرض ).
( 3 ) اللوحة الانسانية. يندرج تحت أسلوب اللوحة الانسانية مجموعة
من القصص هى ( غروب/ العروس العائمة/ الرحيل/ العلاقة الحمورية/ معاش مسعود/ شريط
الذكريات ). وتتميز قصص تلك المجموعة بافتقارها جميعا الى أهم مايميز القصة القصيرة
وهى تنامى الحدث ولحظة التوتر. لكنها تستعيض عن ذلك بالشحنة الانسانية العالية من
خلال الاقتراب من الألم الانسانى الشفيف الذى تعانيه الشخصيات فى صمت. كل شخصيات القصص
الأخيرة تنطوى على آلامها وتجترها فى صمت ووحدة. الأم التى تستعيد لحظة فقد ابنها
يوميا فى مشهد غروب الشمس وتذرف الدمع فى صمت , والعروس التى يظل حادث فقد الأب يؤرقها
رغم مرور عشرات السنين تطوى عليه جوانحها فى صمت, والكهل الذى افسد الثلاثين سنه الأخيرة
من عمره انتظارا للموت بعد رحيل أصدقاء العمر, والعجوز الثمانينى الذى أهدر عمره بلا
زوجة أو أبناء اخلاصا للحبيبة الذى حال رفض الأسرة بينه وبين الحصول عليها. ورغم غياب
الحبكة عن القصص الأخيرة الا أن شحنة التلاحم الانسانى مع آلام المهمشين تمنح المتلقى
من المتعة مايعوض غياب الحبكة.
ففى قصة (غروب) تتجلى مشاعر الحزن الشفيف فى
العناصر التى تجمع بين كل أطياف البشر. والصورة التى تعبر بصدق وشفافية عن ذلك الحزن النبيل الذى
يلتحف الصمت, تمس المشاعر وترقق الوجدان. الحزن النبيل هو قاسم مشترك
ويعكس بصدق وحة النوع الانسانى . الأم الذى يمثل لها رحيل ابنها
رحيل
شمس حياتها. تستعيد اللحظة كل يوم بترقب غروب الشمس. تستعيد
لحظة الغياب
بينما تغرق فى بكاء صامت جليل. تتجاوب مع من يبشرونها
بالحياة الأبدية
لابنها الشهيد. لكنها تجد الدفء فى استعادة لحظة الغياب. ربما
كوسيلة
لإعادة انتاج لحظة الغياب. قصة مؤثرة . صياغة سلسة.
تحياتى للأديب الواعى/ مجدى شلبى. مجموعة قصصية متميزة بتنوعها
وثرائها , وبساطتها, ورقيها.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
مع تحيات / محسن الطوخى
27/1/2013